
تغذية مستقبل الشركات الناشئة في لبنان: في قلب AUB iPark
[قراءة 8 دقائق]
في هذا العدد من سلسلة "أصوات من الصناعة"، أجرينا مقابلة مع هاني حيدر، مدير البرامج في حاضنة الابتكار التابعة للجامعة الأميركية في بيروت (AUB Innovation Park - iPark)، للغوص في واقع بناء مُسرّع أعمال في لبنان. شاركنا هاني رؤيته حول ما يتطلّبه الأمر فعلياً لمساعدة المؤسِّسين على الانتقال من الفكرة إلى السوق، في بيئة مليئة بالتحديات. في هذا المقال، نستعرض الدروس المُستفادة، والفجوات الموجودة في العالَم الريادي، وكيف يُعيد iPark كتابة قواعد اللعبة لرواد الأعمال اللبنانيين من الجيل الجديد.
الخلفية
بدأت رحلة هاني بعيداً عن عالم الشركات الناشئة، إذ تخرّج كمهندس ميكانيك، وعمل أربع سنوات في شركة دار الهندسة (Dar) قبل أن يقرر تغيير مساره ومتابعة دراسة ماجستير إدارة الأعمال (MBA) مع تركيز على ريادة الأعمال والاستراتيجية. خلال هذه الفترة، حاول تأسيس شركته الخاصة كمشروع تخرّج، إلا أنّ الأمور لم تسر كما كان يأمل. يقول: "لم تنجح لعدة أسباب"، لكن التجربة شكّلت نقطة تحوّل وفتحت له أبواباً جديدة في دعم الشركات الناشئة في مراحلها المبكرة.
بعد حصوله على الـMBA، انتقل هاني إلى أدوار في إدارة المشاريع المرتبطة بريادة الأعمال، بدايةً في منظمة غير ربحية، ثم التحق بـiPark في أغسطس 2021، حيث لا يزال يعمل حتى اليوم. بصفته مدير البرامج، يُشرف هاني على كامل مسار المسرّع، الذي يتألّف من ثلاث مراحل تبدأ من توليد الفكرة، مروراً بالبناء والتسريع، وصولاً إلى دخول السوق.
داخل AUB iPark
تركّز المرحلة الأولى، "التحقّق من الفكرة" (Idea Validation)، على غربلة ودعم المؤسِّسين في مراحلهم الأولى—حتى أولئك الذين لا يملكون بعد فكرة واضحة. تعتمد هذه المرحلة على وحدات تعليمية ذات وتيرة مرنة، إلى جانب متطلبات إلزامية تُساعد المشاركين على اكتساب المعرفة الأساسية في ريادة الأعمال، وفي الوقت نفسه، تُشكّل اختباراً للالتزام. يوضح هاني: "إذا كنت تُنجز المتطلبات باستمرار، نعرف أنك جاد". خلال فترة تتراوح بين شهرين وأربعة، يتقدّم المؤسّسون النشطون إلى عرض داخلي، يليه عرض أمام لجنة من المستثمرين. من أصل 150 إلى 200 شركة ناشئة في الدفعة الأولى، يصل حوالي 20 إلى المرحلة النهائية، ويُختار 15 فريقاً تقريباً للانتقال إلى المرحلة الثانية. كما يُمكن قبول مؤسّسين بمشاريع متقدّمة يتقدّمون مباشرةً للمرحلة الثانية، ليبلغ العدد الإجمالي حوالي 15 إلى 20 فريقاً.
في المرحلة الثانية، "البناء والتسريع"، يبدأ العمل الفعلي. تختلف الرحلة لكل فريق: بعضهم يبدأ من الصفر، وآخرون يستعينون بمصادر خارجية لتطوير التكنولوجيا، وبعضهم يمتلك منتجاً أولياً جاهزاً (MVP). ما يبقى ثابتاً هو الدعم المُخصّص لكل فريق. يبدأ iPark هذه المرحلة بتقييم شامل للاحتياجات، من أجل ربط الفرق بالخبراء المناسبين—سواء في القانون أو العلامة التجارية أو المحاسبة أو غيرها. هنا، يُفعَّل دور شبكة مقدمي الخدمات التي يديرها هاني وفريقه، حيث يحصل المؤسسون على خدمات بأسعار مدعومة تشمل مراجعات تجربة المستخدم (UX) والنماذج المالية.
أما المرحلة الثالثة، "الانطلاق إلى السوق" (Go-to-Market Program)، فهي برنامج مكثّف مدته ثلاثة أشهر، يُركّز على تحقيق مؤشرات حقيقية من حيث التفاعل والإيرادات. بعد عرض المرحلة الثانية أمام لجنة المستثمرين، يتم اختيار 10 فرق للانتقال إلى هذه المرحلة النهائية، حيث تُنظَّم فعاليات مثل يوم العروض (Demo Day) وجلسات خاصة مع المستثمرين. تتكوّن لجنة المستثمرين من أسماء بارزة، وتلعب دوراً نشطاً في دعم وتمويل الشركات المُشاركة.
ومع تطور عمل الحاضنة، بدأت AUB iPark في إجراء استثمارات مباشرة في بعض الشركات الناشئة الواعدة. يقول هاني: "أجرينا بعض الاستثمارات عبر أدوات SAFE". و"SAFE" (Simple Agreement for Future Equity) هو اتفاق شائع في مراحل الاستثمار المبكر، يسمح بجمع الأموال دون تحديد تقييم فوري، على أن يحصل المستثمرون على أسهم لاحقاً ضمن شروط تفضيلية.
كما يعمل الفريق على دراسة إمكانية إنشاء ذراع استثمارية مستقلة، ربما عبر شبكة من المستثمرين الملائكة، في خطوة تهدف إلى توفير دعم مالي مباشر يُضاف إلى الإرشاد والربط بالشبكات.
من هم المتقدّمون إلى iPark؟
يتقدّم إلى iPark طيف متنوّع من المؤسّسين، يتقدّمهم المهندسون. معظمهم من طلاب المرحلة الجامعية الأولى، لكن البرنامج يستقبل أيضاً خريجين، وطلاب دراسات عُليا، وحتى من أفراد الهيئة التعليمية والإدارية.
مع ذلك، لا يرغب iPark في الاعتماد فقط على فرق يقودها طلاب. يقول هاني: "نشترط وجود مؤسّس غير طالب في كل شركة"، إذ أظهرت التجربة أنّ الفرق التي تضم طلاباً فقط تميل إلى التباطؤ خلال مواسم الامتحانات أو بسبب التزامات أكاديمية أخرى.
رسالة تعليمية وأثر مستدام
بما أنّ iPark وُلد ضمن الجامعة الأميركية في بيروت، فإن رسالته متجذّرة في التعليم ودعم الابتكار في لبنان. منذ اليوم الأول، كان الهدف هو تمكين الأفراد، لا سيما الشباب، بالمهارات والتفكير الريادي والانكشاف على الفرص.
واليوم، يدخل iPark فصلاً جديداً. بعد أن كانت برامجه مقتصرة على المنتسبين إلى AUB، بدأ الفريق في توسيع نطاقه ليشمل الجمهور العام. من خلال مبادرة "AUB Online"، يعمل الفريق على تطوير وحدات تعليمية إلكترونية ذات وتيرة مرنة ستكون متاحة خارج الجامعة.
كما يُخطّط الفريق لتنظيم جولات ميدانية ومسابقات ريادة أعمال لطلاب المدارس الثانوية، بهدف زرع بذور الريادة في وقت مبكر، كي تصبح جزءاً طبيعياً من نظرة الشباب لمستقبلهم.
دروس من تشغيل مُسرّع
تعلّم هاني عدّة دروس من إدارته للمسرّع، يمكن أن تفيد جامعات ومسرّعات أخرى:
مركزية البيانات: من أهم الدروس كان ضرورة وجود نظام إدارة علاقات عملاء (CRM) موحّد منذ البداية. غيابه يؤدي إلى تشتت المعلومات وضياعها عبر منصات متعددة.
فهم التحدّي الحقيقي: القدرة على فهم التحديات الفعلية التي تواجهها الشركات الناشئة تُعد مهارة أساسية. كثير من المؤسسين لا يعرفون كيف يُعبّرون عن مشكلاتهم، وهنا يأتي دور الفريق في استخراج هذه التحديات وتقديم التوجيه المناسب.
التواصل الاجتماعي: العلاقات لا تُبنى فقط من خلال ورش العمل. تنظيم نشاطات غير رسمية، مثل رحلات مشي أو ليالي بيتزا، يخلق بيئة مريحة تعزز الثقة والانفتاح بين المؤسسين والفريق.
ثقافة الإرشاد: الموجهون الذين يعملون بدافع الشغف وليس مقابل مادي هم الأكثر تأثيراً. شغفهم ينعكس في مستوى الدعم الذي يقدمونه.
تحديات المنظومة اللبنانية
تُواجه الشركات الناشئة في لبنان عقبات فريدة لا تجدها في أدلة "سيليكون فالي". إحدى أكبر المشكلات تتعلّق بالهيكلية القانونية. الكيانات اللبنانية لا تبعث على الثقة لدى المستثمرين الأجانب، خصوصاً بعد الانهيار المالي في البلاد. يقول هاني: "المستثمر الأجنبي لن يُحوّل أموالاً إلى بنك لبناني"، ما يفتح الباب أمام تعقيدات جديدة.
تلجأ العديد من الشركات إلى تسجيل أعمالها في ولاية ديلاوير الأميركية، لكن من دون إقامة قانونية في الولايات المتحدة، لا يمكنهم فتح حسابات مصرفية. تضاف إلى ذلك تحديات تشغيلية أخرى، مثل تكاليف إعادة الهيكلة ورسوم قانونية خفية. كلّها عقبات لا تواجهها الشركات في منظومات أكثر تطوراً.
كما تظهر فجوة الثقة في الجانب التجاري. يُواجه المؤسسون صعوبة في إقناع العملاء المحليين، خاصة في مجال برمجيات الشركات (Enterprise Software) الذي يتطلب دورة مبيعات طويلة ومعقّدة أصلاً.
للتغلب على بعض هذه التحديات، بدأ البرنامج بتمكين الشركات الناشئة من التوسع إلى قبرص، حيث يوجد حرم البحر الأبيض المتوسط التابع لـAUB، في محاولة للاستفادة من بيئة قانونية أكثر استقراراً وسوق أقرب للاتحاد الأوروبي. يُعد هذا جزءاً من خطة طويلة الأمد لزيادة فرص التوسّع وتحقيق تقييمات أعلى عند الخروج.
ما الذي تحتاجه منظومة لبنان؟
يشدد هاني على حاجة المنظومة إلى شبكة من المستثمرين الملائكة. يُوضح أن شبكة كهذه كانت موجودة قبل الأزمة، لكنها توقّفت. ولأن معظم الشركات لا تُولّد إيرادات في بداياتها، فهي بحاجة ماسة إلى استثمار مبكر كي تستمر. من دون هذا الدعم، مصير الكثير من الشركات هو الإغلاق.
كذلك، يُشير إلى ضعف البنية التحتية للبحث والتطوير (R&D) في لبنان. ورغم أن البلاد لم تكن مركزاً تقليدياً للبحث، فإنّ AUB تبذل جهوداً لتعويض هذا النقص، خصوصاً في المجال الطبي، عبر التعاون مع الطلاب لتحويل الابتكارات إلى منتجات قابلة للتسويق.
ورغم هذه الفجوات، يرى هاني أن المنظومة تطوّرت بعد الأزمة (2015-2019). أصبح الفاعلون أكثر وعياً بكيفية عمل الشركات الناشئة، وكيفية الاستثمار والإرشاد بشكل فعّال—وهو تطوّر إيجابي.
تحوّل في المزاج العام
يرى هاني أن نجاح iPark يبدأ من قوة الفريق. يقول: "لدينا فريق قوي جداً"، مشيراً إلى أشخاص محوريين مثل الدكتور يوسف عسافور، المدير التنفيذي وصاحب الرؤية طويلة الأمد والخبرة التقنية، ومها الزوّيّد، المديرة والقوة الإبداعية وراء الحاضنة، وآرثر بيزديكيان، رائد الأعمال المقيم (Entrepreneur in Residence)، وماري خيرالله، المسؤولة عن العمليات، ورضا عبد الله، الذي يقود نمو المجتمع وبناء الشراكات. كما وجّه شكره الخاص إلى علي، ماريا، نهلة، ومحمد على مساهماتهم القيّمة في مسيرة iPark.
ويجذب iPark نخبة من الموجهين المحترفين والخريجين المتحمسين لرد الجميل. ومع هذه القاعدة الصلبة، يطمح الفريق إلى توسيع نطاقه خارج لبنان خلال السنوات الخمس المقبلة، وبناء علامة تجارية عالمية.
ورغم أنّه أثبت حضوره محلياً وإقليمياً، إلا أنّ الهدف طويل الأمد هو أن يتحوّل iPark إلى مُسرّع قادر على إنتاج شركات ناشئة بمستوى Unicorn.
لكن لتحقيق ذلك، يُشدّد هاني على أن الدعم الحكومي سيكون ضرورياً. فرغم التقدّم الملحوظ الذي أحرزه مركز الابتكار في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB iPark)، يؤكّد أنّ بناء منظومة ناشئة قوية ومستدامة يتطلّب انخراطاً أعمق من القطاع العام. يقول هاني: "أنا متفائل، لكن يجب أن نرى خطوات ملموسة كي نتمكّن من تحويل الابتكار إلى عائدات"، في إشارة إلى التطورات السياسية الأخيرة في لبنان والنقاشات الجارية حول صندوق حكومي موجّه لدعم الشركات الناشئة.
لقد أعاد تشكيل الحكومة الجديدة الأمل إلى أوساط المنظومة الريادية، غير أنّ هاني يُقابل هذا التفاؤل بواقعية. فلكي تنطلق العجلة فعلياً، لا بدّ من تحويل الأفكار إلى أفعال. الوعود والخطط مشجّعة، لكن الدعم العملي والملموس هو ما سيحسم ما إذا كانت بيئة الشركات الناشئة في لبنان ستتمكّن فعلاً من النمو على نطاق واسع. ومع ذلك، يبقى الطريق أمامها واعداً ومليئاً بالإمكانات.
اشترك في نشرتنا الإخبارية لتكون أول من يعرف عند نشر قصص جديدة من "أصوات الصناعة" !